القدّيس باسيليوس الكبير

 ولد القدّيس باسيليوس الكبير أواخر العام 329 م

في قيصرية الكبادوك، التي كان لسكانها لكنة فظّة قاسية على آذان الهيلينيين. وكان عنوان العائلة التي احتضنته التقى والولاء للرب يسوع، ولها الحياة النسكية فخر واعتزاز.

وأنشأت القدّيس باسيليوس جدّته مكرينا الكبرى على الفضيلة، وقد ذكر، في غير مناسبة، انه لم ينس طيلة حياته ما خلّفته في نفسه مواعظ جدّته ومثالها الطيب.وربّاه والده على محبة الكلمة وجمال التعبير وحسن الأداء.

فلما رقد أبوه تردّد على دور العلم في قيصرية لبعض الوقت ثم انتقل إلى القسطنطينية، ويبدو ان أحد معلّميه كان ليبانيوس المعروف الذي شهد أنه كان يشعر بالغبطة كلما سمعه يتكلّم.

أقام في أثينا خمس سنوات حيث كان يدرس على كبار معلّمي زمانه التاريخ والشعر والهندسة وعلم الفلك والمنطق والبيان والفلسفة والطبابة العملانية. وقد تمكّن جيدا مما تعلمه وبرز فيه.

لمّا غادر القدّيس باسيليوس إلى أثينا لمتابعة دراسته، حوّلت أخته مكرينا البيت العائلي إلى ديرا منشئة رهبنة نسائية، وكانت قد التزمت العفة بعدما توفي خطيبها.

وانضمت إليها والدتها، ورافقها بطرس، أصغر الأبناء، فيما اعتزل نكراتيوس برفقة خادم في مكان ما من البنطس وسلك في الفضيلة.

ولما عاد باسيليوس إلى قيصرية اكتشف تغييرات جمّة حصلت في محيطه العائلي، لم يبال أول الأمر وقد أصبح أستاذا في البيان والخطابة وراج صيته فانتفخ.

خشيت عليه أخته مكرينا، واتهمته بالاستكبار واحتقار الناس والأدّعاء، لكن هذا الكلام الذي أثر فيه لم يغيره،إلى أن حلت به الصدمة ! وذلك عندما توفي أخوه نكراتيوس الذي كان يصغره بسنة ، وهو لا يشكو من أي مرض.إذ ذاك بان لباسيليوس بطلان ما حصل حصّله في أثينا وما سار عليه، فجلس عند قدمي أختع مكرينا يتعلم منها سرّ التخلي وحياة الفضيلة.

ثم اقتبل سر العماد. وقد روى القدّيس باسيليوس قصة هدايته في الرسالة 223 فقال :" بعد أن أنضيت زمنا طويلا في الأباطيل وصرفت عهد شبابي في الكدّ والجدّ في تحصيل العلوم وبلوغ حكمة تنكرها الحكمة الإلهية، صحوت يوما كما يصحو النائم من رقاد عميق، ولمحت النور الباهر المشرق من تعليم الإنجيل، فعرفت بطلان الحكمة التي كنت قد تعلمتها وأدركت فراغها وزوالها و أسفت أسفا شديدا على ما مرّ من عمري حتى الآن...

فتّشت عن صديق يدلني على طريق التقوى... وأصبح جلّ أهتمامي ان أعمل على إصلاح أخلاقي بعد أن أفسدها طول اختلاطي برفقاء السوء، ثم قرأت الإنجيل ورأيت ان لا سبيل إلى بلوغ الكمال إلا بأن يبيع المرء ما له ويعطي الفقراء نصيبهم ويتخلّى عن مطامع الحياة جميعها حتى لا يبقى للنفس ما يعكّر صفوها من كل ما في الدنيا."

نحو الرهبنة

قام برحلة إلى المراكز البارزة للحياة الرهبانية في العالم المسيحي: مصر وفلسطين وسوريا وبلاد ما بين النهرين.

أذهله تقشّف النسّاك وعكوفهم على الصلوات الطويلة. ومكّنته المعطيات التي اجتمعت لديه من تبيّن مخاطر العزلة الكاملة وضرورة إيجاد طريقة تجمع، في أن، ما بين المرونة والدفّة بحيث تحافظ على خير ما هو موجود وتنميه وتجتنب ما هو مشكوك فيه وتلغيه.

فلما عاد إلى بلاده في الكبّادوك بدا مستعدا للخوض في خبرات وتأملات رهبانية أبرزت اتجاهاته الشخصية في هذا الشأن.

رهبنته

أختار القدّيس باسيليوس، مكانا اعتبره أكثر الأمكنة التي عرفها ملاءمة للحياة الرهبانية :إيبورا الواقعة على ضفة نهر إيريس مقابل "أنيسي" حيث أنشأت أخته مكرينا ديرها.

و انضم إلى باسيليوس بعض طلاّب الحياة الرهبانية، وكذلك، ولو بعد تردّد صديقه الصدّوق غرغوريوس اللاهوتي.

حصر باسيليوس اهتماماته في أربعة :الإختلاء، الصلاة الممتزجة بالنشيد والتسبيح، قراءة الكتاب المقدّس وكتب الآباء والتأمل. وها هو هذا الأنسان الذي تربى في الغنى والبحبوحة يعيش في عزلة ناحل الجسم، شاحب الوجه بسبب الصوم، عائشا دون امرأة ودون خيرات البتة.

كما أضحى دون لحم يغطي جسمه ودون دم يجري في عروقه. وقد ورد ان باسيليوس وصديقه غريغوريوس كانا يعملان بايديهما ويحملان الحطب وينقلان الأثقال وان آثارها بقيت طويلا. كذلك قيل ان الخبز الذي اعتادا تناوله كان جافا وسيء الصنع وشاق المضغ.

كان القدّيس باسيليوس في رهبنته، عنيفا حيال نفسه. فولاذي المعدن.اهتم القدّيس باسيليوس بالهبنة المشتركة ووضع لها قواعد تحكمها.

ولنا منه القوانين المطوّلة الخمسة والخمسون والقوانين المختصرة الثلاثمائة والثلاثة عشر. موهبته كمشرّع كانت فذّة. لكنه لم يغفل أهمية المناسك قريبا من الأديرة المشتركة.

كهنوته

صار القدّيس باسيليوس قارئا عام 359 م وشماسا سنة 360 م وكاهنا سنة 362 او 363 م وصار رئيس أساقفة قيصرية سنة 370 م. علاقته بالأساقفة كثيرا ما كانت موجعة. ديانوس الضعيف وقّع دستور إيمان هرطوقيا فقطع باسيليوس الشركة معه لبعض الوقت.

و أفسافيوس الذي سامه كاهنا اصطدم به مرات.وكان الرجلان يتجادلان باستمرار، والغيرة استبدّت بالأسقف إلى حد أنه لم تعرف أسباب الخلاف بينهما. فعاد باسيليوس إلى إيبورا.

وقد راودته فكرة الوقوف في وجه الأسقف. وحتى مقاومته، ولعب صديقه القدّيس غريغوريوس اللاهوتي دور المهدىء، فسكت ولو على مضض.

وما لبث أفسافيوس الأسقف أن أستدعى باسيليوس من جديد لحلجته إليه إثر تولّي والنس الآريوسي السلطة (365 م).

القدّيس غريغوريوس اللاهوتي توسّط فكتب لباسيليوس قائلا :" عجّل بالرجوع إلى قيصرية. الأسقف يبدي نحوك العواطف الكريمة المتوسّلة... أعداء الإيمان القويم ينشطون ... الحقيقة في خطر".

توفي أفسافيوس سنة 370 م وانطرح موضوع خلافته. حميت المعركة. الآريوسيين كانوا أقوياء، والفريق الأرثوذكسي مشتّت.

لعب غريغوريوس الشيخ، والد القدّيس غريغوريوس اللاهوتي، دورا بارزا. وتمكن من استقطاب العديدين.

وقد اشترك أساقفة من خارج حدود المتروبوليتية في اختيار رئيس الأساقفة الجديد.والجواب باسيليوس. وإحدى المآخذ عليه كانت إنه مريض، فسأل غريغوريوس المعارضين: ما المطلوب؟ أسقف أم مصارع ! ثم القداسة واعتلال الصحة يسيران يدا بيد !

على هذا النحو ربح باسيليوس معركة، ولكن كانت بانتظاره معارك. معركة الفساد في صفوف الكهنة كانت إحداها.

فبعد سنتين من توليّه الأسقفية قال :" بادت كرامة الكهنوت ! ليس بعد من يرعى رعية الرب بحكمة. قوم متكبّرون يبذّرون مال الفقير على ملذّاتهم وتوزيع الهدايا. ليس بعد حفظ القوانين مصونا. إجازة ارتكاب الخطايا باتت وسع الأرض. والذين وصلوا إلى مناصبهم بالمحاباة يردّون لسادتهم الجميل بغض الطرف عن الخطايا والموبقات التي يرتكبونها. الحكم بالحق مات. كل يتبع نزوات قلبهز تخطّى الشر الحدود ".

مجاعة ومرض

سنة368 م حلت بقيصرية الفواجع، من عواصف البرد والطوفان إلى الهزات الأرضية، فالجفاف. وشحّت المواد الغذائية، وحصلت المجاعة.

"وفاق كل هذا فظاعة مشهد القسوة والجشع عند التجّار والملاّكين" .اما باسيليوس الذي كان كاهنا انبرى لعمل الرحمة بلا هوادة. فنظّم مخزنا شعبيا جمع فيه ما تيسّر له من أغذية وثياب، أخذ يوزّعها بنفسه على البائسين والفقراء والمسنّين.

كان يطعم الجائعين بيديه ويغسل أقدامهم ويطوف على المرضى والمحتاجين بثيابه السميكة المغبّرة في عزّ حر شهر آب.
كذلك رفع صوته في مواعظ ألهبت النفوس أكثر مما ألهبت الشمس الأبدان.كثيرون فتحوا مخازنهم وبيوتهم على الأثر. وإلى تلك الفترة تعود أهم مواعظه في شأن العناية بالفقراء.

صراعه مع السلطة

بقي الصراع بين القدّيس والأمبراطور والنس الآريوسي خفياً لبعض الوقت،حتّى أصدر الأمبراطور مرسوماً بتجزئة قيصرية من أجل إضعاف القدّيس وسحقه، فما كان من باسيليوس إلا أن رفع عدد من كنائس القرى إلى أسقفيات.
وبعد ذلك أرسل الأمبراطور إليه موفداً ليعرض عليه الإذعان للهرطقة الآريوسيّة أو التخلي عن إدارة الكنيسة، ولمّا رفض الأمر عزم على نفيه لكن الأمر لم ينجح. 

ومن الأعمال الملفتة ألتي أطلقها القديس المدينة الباسيلية والتي هي عبارة عن مشروع يضم مستشفى ومدارس مهنية ودور للأيتام وملاجىء للبرص وفنادق وكنائس.

رقاده 

رقد القدّيس باسيليوس الكبير في أول كانون الثاني من العام 397م. عن عمر ناهز الخمسين.

No Comments Yet.

Leave a comment

You must be Logged in to post a comment.